شرع الله النكاح لمصالح عظيمة وشرع سبحانه من الأسباب ما يكفل له الاستمرار والدوام وجعل حلولاً شتى لما قد يقع بين الزوجين من خلاف بحيث لا يصار إلى الطلاق إلا بعد أن تنفد جميع الحلول ويعجز أهل الإصلاح عن رأب الصراع وإزالة أسباب الخلاف.
ولكن المتأمل في حال البعض من الناس يجد لديهم استخفافاً بعقد النكاح فيبادر إلى الطلاق بلا سبب أو بسبب أوهى من خيط العنكبوت متناسياً قوله تعالى (ولا تنسوا الفضل بينكم) وقد التقينا مجموعة من المشايخ الذين بينوا خطر الاستعجال لإيقاع الطلاق والآثار المترتبة على ذلك.
بادئ ذي بدء تحدث فضيلة الشيخ سالم بن مبارك المحارفي (الداعية في القاعدة الجوية بالرياض وإمام وخطيب جامع ابن عساكر)، فقال: يحكي واقع كثير من الناس اليوم صوراً شتى من اللامبالاة بقيم الألفاظ ودلالات الكلام. وأثر المعاني وثمراته ونتائجه المترتبة عليه، تسمع الكلمة تخرج من فم المرء لا يلقي لها بالاً، ربما هوت به في مسالك الضياع والرذيلة وأقحمته في دهاليز الهموم والغموم، وفقدان الشعور، وأعقبته حسرة وندامة.. ولات حين مندم.
إن كلمة من الكلمات قد تكون معولاً يهدم به صرح أسر وبيوت ترتعد الفرائض بوقعها، وتقلب الفرح حزناً، والبسمة عبوساً، والأمل يأساً.. إنها كلمة (طالق).. فلله كم قطعت من أواصر الأرحام والمحبين.. وكم قصمت وشائج المحبة والعشرة سنين غابرة.
الطلاق كلمة لا ينازع أحد في جدواها، وحاجة كل من الزوجين إليها حينما يتعذر العيش تحت ظل سقف، وإذا بلغ النفور بينهما مبلغاً يصعب معه التودد، فالواجب والحالة ما ذكر، أن يتفرقا بالمعروف والإحسان، كما اجتمعا بهذا القصد أول الأمر (وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته وكان الله واسعاً حكيماً) إن الله عز وجل لم يخلق الزوجين بطباع واحدة، والزوجان اللذان يظنان أن مشاعرهما ورغباتهما واحدة لا تتصادم يعيشان في أوهام، ويسبحان في أحلام النيام. إن النسيم العليل لا يهب داخل البيت على الدوام.. فقد يتعكر الجو، وقد تثور الزوابع، وتدلهم الأمور وإن ارتقاب الراحة الكاملة نوع من الوهم، ومن العقل توطين النفس على قبول بعض المضايقات (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره خلقاً رضي منها آخر" (رواه مسلم).
لقد كثر الطلاق اليوم حتى أصبحت أرقام نسب الطلاق تنافس أرقام نسب الزيجات ولذلك حين فقدت قوامة الرجل في بعض الأزواج، إبان غفلة وتقهقر عن مصدر التلقي من الكتاب والسنة، وركن فئام من الناس إلى مصادر مريضة، قلبت عليهم مفهوم العشرة وأفسدت الحياة الزوجية، وتولى كبر تلك المفاهيم المغلوطة الإعلام بشتى صوره من خلال مشاهدات متكررة، تقعد فيها تصورات خاطئة ومبادئ مقلوبة في العشرة الزوجية.
الحياة الزوجية حياة اجتماعية، ولابد لكل اجتماع من رئيس يرجع إليه عند الاختلاف في الرأي والرغبة، والرجل أحق بالرياسة لأنه أخبر بالمصالح، وأقدر على التقيد، بما أودع الله فيه من الخصائص والقدرات التي لا توجد في المرأة.. وإن ما تتلقفه المرأة من الأجواء المحيطة بها على منازعة الرجل قوامته، لمن الانحراف الصرف، والضلال البين، ومصادمة الواقع الذي هو دليل على ما نقول وزيادة. وإن قوامة الرجل في بيته لا تعني منحه حق الاستبداد والقهر، فعقد الزوجية ليس عقد استرقاق، ولا عقد متعة ينتهي بمدته. إنه أزكى من ذلك وأجل، فوجب الحق للمرأة حتى مع قوامة الزوج (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) ولا غنى للزوج عن امرأته، والزوجة عن بعلها (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن).
وقد كثر الطلاق اليوم، لما صار المطلق أحد رجلين، إما رجلاً أعمل سلطته، وأهمل عقله وعاطفته، فكان في منزله عسكرياً يسود فيه نظام الدكتاتورية، قد ينجح في جعل البيت يسير وفق ما يريد، ولكنه لا يذوق طعم المحبة والسعادة، ولا يعرف الصفاء والهناء فيه.
وإما رجلاً تبع عاطفته فأطاعها، وأهمل سلطته فأضاعها، فعاش في داره عبداً رقيقاً يوجه من غيره فينساق، تقوده امرأته حيث أرادت ولربما أودت به مهالك ومهازل.
لقد كثر الطلاق اليوم لما كثر الحساد والوشاة، فصيروا أسباب المودة والوئام عللاً للتباغض والانقسام، ولربما كان لأهل الزوجين مواقف ظاهرة بدت سبباً مباشراً في كثير من الخلافات، فأذكت نارها، وقطعت أواصرها، وأعانت الأحمق على حمقه.
إن العلاقات الزوجية عميقة الجذور، بعيدة الآماد، فرحم الله رجلاً محمود السيرة، طيب السريرة، سهلاً رفيقاً، رحيماً بأهله، لا يكلف زوجته من الأمر شططاً، وبارك الله في امرأة لا تطلب من زوجها غلطاً، ولا تحدث عنده غلطاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل بفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشرها) (رواه أبو داود)، وقال عليه الصلاة: (إذا صلت المرأة خمسها، وحصنت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت) (رواه ابن حبان)، وقال عليه الصلاة والسلام: (استوصوا بالنساء خيراً). (متفق عليه). وسئل صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح، وتهجر إلا في البيت) (رواه أبو داود).
وعلى الرجل ألا يصدر هذا الحكم القاسي إلا بعد تفكير عميق، وروية كافية، فإذا تعذرت الحياة الزوجية، وفشلت جميع أسباب الإصلاح بين الزوجين، فإن الإسلام جعل للطلاق وقتاً يوقع فيه، ولم يجعله تنفيساً لثورة غضب ولحظة اندفاع، فإذا عزم فليطلق في طهر لم يجامع فيه، فلا يطلق إلا بعد طول نظر وتفكير، إذ يحتمل أن يغير رأيه وهذا من مقاصد الشرع المطهر، والله الموفق.