وراثة الصفات - 2
عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه و سلم :
هل تغتسل المرأة إذا احتلمت و أبصرت الماء ؟ فقال : نعم . فقالت لها عائشة
: تَرِبت يداك وألَّت ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " دعيها و
هل يكون الشَّبه إلا من قِبَل ذلك ؛ إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد
أخوالَه ، و إذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامَه. صحيح مسلم في الحيض 313
وهذا الحديث يؤكد أيضاً ما سبق في الحديث السابق ففي كل من ماء الرجل و
المرأة صبغيات ( كرموسومات ) تحتوي مورّثات ( جينات ) تختلف من إنسان إلى
آخر ، و هذه المورثات إذا غلبت تظهر خصائصها و آثارها في المولود ، و لهذا
يقرر أحد المختصين فيقول : إن الإنسان قبل أن يكون مجسماً بأعضائه و صفاته
كان صيغة صبغية ( كروموسومية ) و مورثية معينة ، فهو ست و أربعون صبغياً (
كروموسوماً ) تحتوي عدداً كبيراً من المورثات (الجينات ) تتوزَّع عليها
بصيغة تختلف من إنسان إلى آخر ، و هذه الصبغيات ( الكروموسومات ) و
المورثات ( الجينات ) وُجدت كلها في آدم عليه السلام ، ثم أخذت تتوزع في
ذريته ؛ و المسألة سهلة و تصورها بسيط : إن قرص التلفون الذي أمامنا يحتوي
عشرة أرقام فقط نستطيع بإدارتها بترتيب مختلف أن نكلم من نشاء في أرجاء
المعمورة ، فأرقام هواتف العالم كلها موجودة في هذا القرص [ القرار المكين
] .
ويؤكد هذا المعنى قوله تبارك و تعالى : { وَهُوَ الذَّي أَنشَأكُم
مِن نَّفسٍ وَاحِدَةٍ فَمُستَقَرٌ وَ مُستَودَعٌ قَد فَصَّلنَا الآيَاتِ
لِقَومٍ يَفقَهُونَ } [ الأنعام : 98 ] ، فكل إنسان يحمل في خلاياه
الجنسية مُوَرِّثات كُلِّ من يتفرع عنه من ذريته ، و الله سبحانه بكامل
علمه و مشيئته و قدرته قد أحاط بها و هي تنتقل من مستقرها في الأصلاب إلى
مستودعها في الأرحام ، إنها رحلة طويلة و طويلة جداً ، و لكنها مقدرة و
معلومة في كل مراحلها و أطوارها و حركاتها ، إنها رحلة مبرمجة بدقة من قبل
الله العليم الحكيم [ انظر كتاب : بصائر الحق في سورة الأنعام ، للمؤلف ] .
وهذا يقرب لنا معنى الآية القرآنية الكريمة : { وَإِذ أَخَذَ رَبُّكَ مِن
بَنِي آَدَمَ مِن ظُهُورِهم ذُرِّيَّتَهُم وَ أَشَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِم
أَلَستُ برَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدنَا أَن تَقُولُوا يَومَ
القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غَافِلِينَ ( 172 ) أَو تَقُولُوا
إِنَّمَا أَشَركَ آَبَاؤُنَا مِن قَبلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِن بَعدِهِم
أَفَتُهلكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبطِلُونَ } [ الأعراف : 172 - 173 ] .
وفي الحديث الشريف عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : عن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : " يقول الله تبارك و تعالى لأهون أهل النار عذاباً : لو
كانت لك الدنيا و ما فيها أكنت مفتدياً بها ؟ فيقول : نعم ، فيقول : قد
أردت منك أهون من هذا و أنت في صلب آدم ، أن لا تشرك و لا أدخلك النار ،
فأبيت إلا الشرك " ، وفي رواية ثانية بلفظ : " قد سئلت ما هو أيسر من ذلك
" [ صحيحي مسلم من كتاب المنافقين ص 2805 ]
ومن المعلوم أن الخلايا
الجنسية الابتدائية تشتق من جدار الحويصل المحِّي ثم تهاجر و تدخل على
الغدد الجنسية الآخذة بالتكون في ظهر المخلوق الجديد ثم تتكاثر فيها .
وجاء أيضاً في الحديث الشريف عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه و سلم : " إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان _ موضع
قرب عرفات _ يوم عرفة ، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها ، فنثرها بين يديه ثم
كلمهم قَبلاً قال : { وَ إِذ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آَدَمَ مِن
ظُهُورِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَ أَشهَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِم أَلَستُ
بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدنَا أَن تَقُولُوا يَومَ القِيَامَةِ
إِنَّا كُنَّا عَن هّذَا غَافِلِينَ } [ الأعراف 172 ] . [ رواه أحمد و
النسائي و الطبري و الحاكم ؛ انظر أسباب هلاك الأمم و سقوط الحضارات في
سورة الأعراف ، للمؤلف ] .
المصدر : " الأربعون العلمية " عبد الحميد محمود طهماز - دار القلم